أخبار المحافظات أخبار المحافظات

آخر الأخبار

أحدث المواضيع

random
جاري التحميل ...

تلوث الذوق العام


 كتبت ـ فاطمة ناعوت
تخيّلوا معى ذاك السيناريو التخيُّلى (الذى لم يحدث) منذ خمسين عامًا: جاءَ شخصٌ غير كريم وألقى منديلا مُلوّثًا فى أحد شوارع مصر النظيفة (آنذاك). تصدّى له حشدٌ من الناس، وقدموه للشرطة بتهمة تلويث الطريق. صعد الأمرُ للقضاء المثقف، وحُكم على ذلك المجرم بغرامة مالية ضخمة والحبس شهرًا. تناولت الصحفُ الخبرَ وصارت سيرةُ ذلك «المُلوِّث» الآثم على كل لسان. لم يحدث ذلك السيناريو بالطبع، لهذا صِرنا على ما نحن عليه الآن من فوضى ودمامة.
فى طفولتنا، كانت هناك لعبةٌ شهيرة اسمها «بنك الحظ». وهى تعريب للعبة غربية اسمها Monopoly (احتكار السلع). اللعبةُ عبارة عن بساط من الورق المقوّى مقسّمة إلى مربعات عند الحواف، يحمل كلُّ مربع اسم مُقاطعة أو عاصمة أو مدينة يمكن للاعب أن يشتريها بعملات ورقية مُقلّدة تدور بين اللاعبين. اللعبة تُعلّم الطفلَ طبيعة الحياة من بيع وشراء وقوانين وغيرها. وهناك مربعات لو وقف عندها اللاعب يقوم بتنفيذ الحُكم الصادر عليه. مازلتُ أذكرُ أحد تلك الأحكام. «ألقيتَ قمامةً فى الطريق، ادفعْ غرامة خمسمائة جنيه، واذهب إلى السجن». هكذا تعلّمنا فى طفولتنا أن تلويث الطريق جريمة تستوجب العقاب. وكبرنا ولم نجد هذا يتحقق فى الواقع المصرى، بكل أسف. فكل نهار ومساء، نشاهد من يلقون القمامة فى الطريق، مطمئنين أن لا قانون يلاحقهم. وإن تبرّعتَ وانتقدت ذلك السلوك المشين، سوف تسمع ما لا ترضى. لهذا تحوّلنا إلى شعبٍ نصفُه «يُلوِّث»، ونصفُه «يتلوَّث»، ويصمتُ صاغرًا. غدونا شعبًا نصفُه يُجرمُ فى حق الوطن، والنصفُ الآخر يعتنقُ «الأنامالاية» مذهبًا، لأنه يخشى أن يدخل فى صراعات، سوف تُحسَم فى الأخير لصالح الأطول لسانًا والأبطش يدًا. و«الأنامالاية» مذهبٌ غير متحضر مشتقٌّ من عبارة «وأنا مالى!». تلك التى يقولُها المرءُ لنفسه، بعدما سمع قبلها عبارة: «وانت مالك؟»، على لسان المخطئ أو المجرم، فتعوّد المرءُ فيما بعد أن يقولها لنفسه، صونًا لكرامته.
ولأن للتلوُّثِ أشكالا وألوانًا وأنواعًا. فقِسْ على ما سبق من تلويث الطرقات بالقمامة، تلويثَ العيون بالقبح المعمارى وانعدام الأناقة فى الأزياء، وتلويثَ الأنوف بالروائح غير الطيبة فى الشوارع والحافلات، وتلويثَ الُأذن بالركاكة اللفظية والبذاءات والشتائم فى المدارس والبيوت والشوارع وعلى الشاشات، وتلويثَ الروح بالتكفير والطائفية والإرهاب. ويمكن جمعُ كل ما سبق من تلوّثات فى عبارة واحدة موجزة اسمها: «تلويث الذوق العام». وهو الاتهام الذى وجّهه الفنانُ المثقف «هانى شاكر» إلى شخص يُصدر من حنجرته أصواتًا مُنفّرةً، ويُطلق عليها «طربًا»!! والمدهش أن ذلك الغثاء الصوتى يجد له جماهيرَ وسامعين؟ ولكن، لا مجال للعجب لأن تلك الجماهيرية هى نتاجُ كل ما سبق من تلوّثات مجتمعة. فالحقُّ أن «دائرة التلوث الجهنمية» تشبه «الأوانى المستطرقة» فى علم الفيزياء. فهى دائرةٌ يُفضى بعضُها إلى بعض. فالقمامةُ فى العيون، والركاكةُ فى الأذن، والطائفيةُ فى الروح، مع مرور الزمن والتراكُم، تؤدى جميعُها معًا إلى انهيار فى «الذائقة العامة». وحين تنهار الذائقةُ العامة، فمن الطبيعى أن تتقبّل الإسفافَ الصوتى باعتباره غناءً وطربًا ونغمًا. والحقُّ أن السبب فى هذا ليس مُدّعى الطرب وحسب. فمن حقّ كل إنسان أن يحلم بأن يصير مطربًا أو موسيقيًّا أو شاعرًا أو رسامًا. لكن غيابَ الحراك النقدى الحقيقى والواعى، وعدم الوقوف فى وجه المُدّعين هو المسؤول الأول عن انهيار الذوق العام.

عن الكاتب

أخبار المحافظات

التعليقات

إعلان أول الموضوع
إعلان وسط الموضوع
إعلان آخر الموضوع

اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

أخبار المحافظات